كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعطف {إذا مَرضت} على {يطعمني ويسقينِ} لأنه لم يكن حين قال ذلك مريضًا فإن {إذا} تخلص الفعل بعدها للمستقبل، أي إذا طرأ عليّ مرض.
وفي إسناده فعل المرض إلى نفسه تأدب مع الله راعى فيه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة في مقام الأدب، فأسند إحداث المرض إلى ذاته ولأنه المتسبب فيه، فأما قوله: {والذي يميتني ثم يحيين} فلم يأت فيه بما يقتضي الحصر لأنهم لم يكونوا يزعمون أن الأصنام تميت بل عمل الأصنام قاصر على الإعانة أو الإعاقة في أعمال الناس في حياتهم.
فأما الموت فهو من فعل الدهر والطبيعة إن كانوا دهريين وإن كانوا يعلمون أن الخلق والإحياء والإماتة ليست من شئون الأصنام وأنها من فعل الله تعالى كما يعتقد المشركون من العرب فظاهر.
وتكرير اسم المَوصول في المواضع الثلاثة مع أن مقتضى الظاهر أن تعطف الصلتان على الصلة الأولى للاهتمام بصاحب تلك الصلات الثلاث لأنها نعت عظيم لله تعالى فحقيق أن يجعل مستقلًا بدلالته.
وأطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع تواضعًا لله تعالى ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاقه المغفرة وإنما طمع في ذلك لوعد الله بذلك.
والخطيئة: الذنب.
يقال: خَطِئ إذا أذنب.
وتقدم في قوله تعالى: {نغفر لكم خطاياكم} في البقرة (58).
والمقصود في لسان الشرائع: مخالفة ما أمر به الشرع.
وإذ قد كان إبراهيم حينئذ نبيئًا والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي.
والمغفرة: العفو عن الخطايا، وإنما قيده ب {يوم الدين} لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو، فأما صدور العفو من الله لِمثل إبراهيم عليه السلام ففي الدنيا، وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة.
ويوم الدين: هو يوم الجزاء، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضًا بالدعاء.
وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحِسي بحيث لا يخفى عن أحد قصدًا لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء.
وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخَلْق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخَلْق إلى الخَلْق الثاني وهو البعث، فذكر خَلق الجسد وخَلق العقل وإعطاءَ ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمةً.
وحذفت ياآت المتكلم من: يهدين، ويسقين، ويشفين، ويحيين لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها، وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة، وقد تقدم ذلك في قوله: {فأخاف أن يقتلون} [الشعراء: 14] في قصة موسى المتقدمة.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)}.
لما كان آخر مقاله في الدعوة إلى الدين الحق متضمنًا دعَاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] فكان حينئذ في حال قرب من الله.
وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين، فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف، وكلها فراغ من عبادات.
ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى: {وإذ يَرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} إلى قوله: {ربّنا واجعلنا مسلمين لك إلى إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 127- 129] وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143]، وكما أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال: {وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين} [الزمر: 12].
وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة، قال سعد بن أبي وقاص: أنا أول من رمَى بسهم في سبيل الله.
وبضد ذلك أوليات المساوىء ففي الحديث: «ما من نفس تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها ذلك لأنه أول من سَنّ القتل».
وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} إلى قوله: {يوم الدين} [الشعراء: 78 82] الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله: {إلا من أتى الله بقلب سليم} وأقحم بين طِلْباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله: {ولا تخزني يوم يبعثون}.
فابتداء دعائه بأن يعطى حُكْمًا.
والحكم: هو الحكمة والنبوءة، قال تعالى عن يوسف: {آتيناه حكمًا وعلمًا} [القصص: 14] أي النبوءة، وقد كان إبراهيم حين دعا نبيئًا فلذلك كان السؤال طلبًا للازدياد لأن مراتب الكمال لا حدّ لها بأن يُعطى الرسالة مع النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة، أو سأل الدوام على ذلك.
ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين.
ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين، فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخرًا لأنه يعم، فكان تذييلًا.
ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده.
وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه.
وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلًا يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويُخلد ذكره في الكُتب.
قال ابن العربي: قال مالك: لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحًا ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح، وقد قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله.
وقد تقدم الكلام على هذا مشبعًا عند قوله تعالى: {والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا} في سورة الفرقان (74).
واللسان مراد به الكلام من إطلاق اسم الآلة على ما يتقوم بها.
واللام في قوله: {لي} تقتضي أن الذكر الحسن لأجله فهو ذكره بخير.
وإضافة {لسان} إلى {صدق} من إضافة الموصوف إلى الصفة، ففيه مبالغة الوصف بالمصدر، أي لسانًا صادقًا.
والصدق هنا كناية عن المحبوب المرغوب فيه لأنه يرغب في تحققه ووقوعه في نفس الأمر.
وسأل أن يكون من المستحقين الجنة خالدًا فاستعير اسم الورثة إلى أهل الاستحقاق لأن الوارث ينتقل إليه ملك الشيء الموروث بمجرد موت المالك السابق.
ولما لم يكن للجنة مالكون تعين أن يكون الوارثون المستحقين من وقت تبَوُّؤ أهل الجنة الجنة، قال تعالى: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10، 11].
وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلّغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالّين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته.
وفي الحديث أنه يؤتى بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيح أي ضبَع ذكر فيلقَى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله: {ولا تخزني يوم يبعثون} أي قطعًا لما فيه شائبة الخزي.
وتقدم الكلام على معنى الخزي عند تفسير قوله تعالى: {إلاّ خِزي في الحياة الدنيا} في سورة البقرة (85).
وقوله: {إنك من تُدخل النار فقد أخزيتَه} في آل عمران (192).
وضمير: {يبعثون} راجع إلى العباد المعلوم من المقام.
وجملة: {إنه كان من الضالين} تعليل لطلب المغفرة لأبيه فيه إيماء إلى أنه سأل له مغفرة خاصة وهي مغفرة أكبر الذنوب أعني الإشراك بالله، وهو سؤال اقتضاه مقام الخُلّة وقد كان أبوه حيًا حينئذ لقوله في الآية الأخرى: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حَفيًّا} [مريم: 47].
ولعلّ إبراهيم علم من حال أبيه أنه لا يرجى إيمانه بما جاء به ابنه؛ أو أن الله أوحى إليه بذلك ما ترشد إليه آية.
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه} [التوبة: 114].
ويجوز أنه لم يتقرر في شرع إبراهيم حينئذ حرمان المشركين من المغفرة فيكون ذلك من معنى قوله تعالى: {فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه} [التوبة: 114].
ويجوز أن يكون طلبُ الغفران له كناية عن سبب الغفران وهو هدايته إلى الإيمان.
و{يوم لا ينفع مال} الخ يظهر أنه من كلام إبراهيم عليه السلام فيكون {يوم لا ينفع} بدلًا من {يوم يبعثون} قصد به إظهار أن الالتجاء في ذلك اليوم إلى الله وحده ولا عون فيه بما اعتاده الناس في الدنيا من أسباب الدفع عن أنفسهم.
واستظهر ابن عطية: أن الآيات التي أولها {يوم لا ينفع مال ولا بنون} يريد إلى قوله: {فنكون من المؤمنين} [الشعراء: 102] منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله تعالى صفة لليوم الذي وقف إبراهيم عنده في دعائه أن لا يُخْزى فيه. اهـ.
وهو استظهار رشيق فيكون: {يوم لا ينفع مال} استئنافًا خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هو يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وفتحة {يومَ} فتحة بناء لأن {يوم} ظرف أضيف إلى فعل معرب فيجوز إعرابه ويجوز بناؤه على الفتح، فهو كقوله تعالى: {هذا يومَ ينفع الصادقين صدقُهم} [المائدة: 119].
ويظهر على هذا الوجه أن يكون المراد ب {من أتى الله بقلب سليم} الإشارةُ إلى إبراهيم عليه السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة الصافات [83، 84] في قوله: {وإن من شِيعَتِه} أي شيعة نوح لإبراهيمَ إذ جاء ربَّه بقلب سليم.
وفيه أيضًا تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغني عنهم شيئًا، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منارَ له فيهتَدى به، وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة.
ومن عبارات عِلم المنطق السَّالبةُ تصدُق بنفي الموضوع.
والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة وهي النصر، فالمال وسيلة الفدية، والبنون أحق من ينصرون أباهم، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهدًا يجب الوفاء به.
قال قيس ابن الخَطِيم:
ثأَرتُ عَدِيًّا والخطيمَ ولم أُضِع ** وَلاية أشياخ جُعلت إزاءَها

واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأوْلى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العُرف.
فالكلام من قبيل الاكتفاء، كأنه قيل: يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر.
وقوله: {إلا من أتى الله بقلب سليم} استثناء من مفعول {ينفع}، أي إلاّ منفوعًا أتى الله بقلب سليم.